top of page
Search
وائل أبو منصور

ملاحق “الزين”: قراءة في مسيرة الفن والفنانين (1963-1966)


.. في مرحلة تكاد تكون الأهم في مشوار الأغنية السعودية، شهدت بدايات تأسيس فرقة الإذاعة الموسيقية ومسرحها، وتمدد الصحافة الفنية المتخصصة، وإنشاء التلفزيون، والأهم من كل ذلك، شهدت لحظة العبور من "الأغنية الشعبية" إلى فضاء "الأغنية السعودية الكلاسيكية"!



بعض الذكريات تكرر مثولها أمام أبطالها عند كل نوبة حنين!

وذكريات “الزين” في مشوار الفن وبلاط “صاحبة الجلالة” بداية الستينيات الميلادية ليست نوبة عابرة، أو طيفا يمكن تجاوزه بتعمد النسيان، لأنها نبتت في مرحلة تأسيسية، غزيرة الإنتاج عظيمة الطموحات.

من قماشة الذكريات التي تلح على صاحبها كل حين ..

ماذا الآن؟ هل سنظل صامتين؟!

على طاولة مستطيلة بداره بمكة المكرمة، جلس “الزين” يقلب بهدوء في ملف قديم رمادي اللون، بينما شمس الخامسة عصرا ترخي أشعتها على وجهه بكسل؛ تبحث عمن يحبس الظل الذي سيّفر بعد قليل!

أخذ يفتش في طبقات من ورق الصحف المهترئ المصفر برفق المحب الشاهد على تفاصيل السطور، يمثل حصيلته المهنية التي حافظ عليها بعد أن قرر اعتزال الفن والموسيقي والصحافة الفنية قبل أكثر من نصف قرن! موضحا في حوار لصحيفة “المدينة” في العام 1967:

“حبي للفن كان كبيرا .. وكانت لي آمال أكبر، إنما هناك ظروف سوف تحول بيني وبين الفن .. وسوف احتفظ بها لنفسي وشكرا”!

وعلى الرغم من تطاول العهد، إلا أن “الزين” ظل وفيا لهذا الوعد الذي قطعه قديما، ودرّب نفسه على ترويض شهوة استعادة ذكرى الأيام الخوالي وليال السمر، لكنه وافق هذه المرة على الحديث باسمه المستعار الذي اشتهر وأطل به عبر ملحق “دنيا الفن” في صحيفة البلاد ابتداء من العام 1963، ثم بعد ذلك في ملحق “جولة الفن” في صحيفة عكاظ ابتداء من 1964 وحتى 1966، في مشوار نتج عنه قرابة 114 ملحقا فنيا، مواكبا ومؤسسا ومساهما في مرحلة تكاد تكون الأهم في مشوار الأغنية السعودية، شهدت بدايات تأسيس فرقة الإذاعة الموسيقية ومسرحها، وتمدد الصحافة الفنية المتخصصة، وإنشاء التلفزيون، والأهم من كل ذلك، شهدت لحظة العبور من “الأغنية الشعبية” بأصوات حسن جاوة وسعيد أبو خشبة ومحمد علي سندي وعبد القادر حلواني ومحمود حلواني وعمر باعشن وفؤاد زكريا وآخرين إلى فضاء “الأغنية السعودية الكلاسيكية”، بحسب ما يذهب بعض النقاد، وأبطالها المجددين أمثال طارق عبد الحكيم و”سمير الوادي” أو مطلق مخلد الذيابي وحامد عمر ومحمود خان وطلال مداح وعبد الله محمد وعمر كدرس وعبد الله ماجد ومحمد الريس وعبده مزيد وفوزي محسون ومحمد عبده وآخرين ضمن أسماء كثيرة توهجت في فورة الطموح والهواية ثم توارت عن الأضواء شيئا فشيئا!



الرحلة الأولى .. من “الشامية” إلى معهد الموسيقى!


“عندما علم أهل الحارة بموهبتي تعاونوا لمساعدتي” .. قالها “الزين” والضحكة عالقة في فمه! والحارة هنا هي “الشامية”، إحدى حارات مكة المكرمة المجاورة لبيت الله الحرام، حيث نشأ الفتى المولود بدايات الأربعينيات الميلادية.

وكأي من أقرانه الذين ولعوا بالفن منتصف إلى أواخر الخمسينيات الميلادية، في بيئة كانت تحتفي بالغناء والموسيقى بعين وتجفل بأخرى تحت طائلة العيب وغيرها من مصطلحات الحذر، ما دفع بمجالس الغناء نحو “البدرون والقبو”، بحسب التعبير الشائع الذي كرره “الزين”، فأخفتها عن الفضاء العام حتى في الأفراح والليالي الملاح! ضمن هذا المناخ العام نشأ “الزين” باحثا عن المفاتيح الرئيسية التي تساعده، رفقة شغفه الكبير، في إطلاق العنان لمخيلته الموسيقية لآفاق أبعد. فوجدها أولا في أصوات المؤذنين الصداحين وخص منهم الشيخ يعقوب شاكر ممن تشرب مقامات البيات والرصد والسيكا والحجاز والبنجكاه ويماني حجاز!

وعند عودته اليومية من الحرم كان يتلقفه “الدكتور” بخفر، والأخير الذي عرف باسمه الرمزي هو أحد أبرز عازفي الكمان المجيدين بحسب “الزين” وقتئذ! وكان “الدكتور” يختبره في أصول ما تناهى إلى سمعه واختزنه وجدانه، الأمر الذي نمّى قدرة “الزين” السماعية في عزفه لآلة العود التي تعلمها صغيرا عن جده، قبل أن يهجرها نحو القانون، الآلة التي سيتعلم أصولها من حمزة مغربي، بتوصية من العمدة وأهل الحارة ممن توسموا في الصبي موهبة قد تحمله بعيدا!

وبعيدا كانت الطائف. ويومئذ كانت بستانا لألوان الفرح، ما دفع الفتى صحبة رفيق البدايات طلال مداح، الذي كان يتلمس بدوره أولى خطوات المجد، إلى المشاركة في حفلات صغيرة ساهمت في صقل موهبتهما ورسوخ صداقتهما التي ستزداد وثوقا بعد ذلك في مثلث جغرافي: مكة المكرمة /الطائف/ جدة.

اشتدت رغبة “الزين” في إتقان العزف على آلة القانون، وتوالت زياراته إلى حمزة مغربي الذي يعده من أوائل العازفين على القانون في مكة المكرمة، إن لم يكن أولهم بحسب ظنه. الفنان الأعزب وصاحب المزاج العصبي الذي يشتعل إذا ما قطع عزفه حديث الرفاق. وكان من السماعيين كغيره من أبناء جيله، إذ كانت قراءة النوتة الموسيقية ترفا تضرب لأجله أكباد الإبل، دون أن يعني ذلك قصورا في موهبة الرواد. فللمغربي مقطوعات موسيقية ألفها وعزفها في الإذاعة، قبل أن يلحن بعد ذلك للموهبة الطازجة محمد عبده أغنيته “بتنكر ليه” في بداية ظهوره قبيل منتصف الستينيات الميلادية بقليل، والتي تعد ضمن أوائل أغاني محمد عبده إضافة إلى “خاصمت عيني من سنين” للملحن محمد محسن.

في أواخر الخمسينيات الميلادية، وعندما بلغ “الزين” سبعة عشر ربيعا، أخذته الصدفة إلى القاهرة. وبعد شيء من حيرة البدايات، اقتنع أنه لا يصلح للغناء، أو بحسب تعبيره: “كان صوتي خجولا .. ووجدت نفسي في صمت القانون”.

لم يخطئ طريقه. يمم وجهه صوب معهد الموسيقى العربية باحثا عن صقل موهبته بشكل علمي، مستغلا فترة مكوثه القصيرة في القاهرة. وخلال تطوافه في حديقة المعهد، وإذا به يقف أمام عازف القانون الشهير محمد عبده صالح، أحد أركان فرقة “أم كلثوم” الموسيقية. تجرأ واقترب من عبده صالح. صافحه وقدم نفسه، راجيا أن يُسمعه عزفه. ثم بعد لقاءات أخرى من الاستماع، وافق عبده صالح على تدريسه بشكل خاص مقابل خمس جنيهات للحصة الواحدة. توطدت علاقة التلميذ بالأستاذ، وتعززت لدى الأول أهمية تطوير الهواية بالعلم، مصرا على تعلم قراءة النوتة وعزفها، إلا أن عبده صالح كان “سماعيا” هو الآخر، ملما بالنوتة بطبيعة الحال، لكنه لا يدرسها! فوعده أن يحضر له مدرسا يعلمه أصولها في زيارته التالية.

لكن الصدفة السعيدة التي تركت أثرا في نفس “الزين” قبل مغادرته القاهرة، كانت في أحد ممرات المعهد، عندما ظهرت أمامه “أم كلثوم” في موكب مهيب من المحبين والمرافقين من بينهم عبده صالح، الذي ألقى التحية على تلميذه في حضرة السيدة الأولى!

توقفت “أم كلثوم” ونظرت باتجاه عبده صالح ثم في اتجاه “الزين” وقالت بحسها الفكِه الشهير: “هو دا ابنك؟!”

فرد صالح على الفور:

“ابني من الحجاز! وباعلمه العزف على القانون”

تفاجأت “أم كلثوم” ووجهت حديثها إلى “الزين”، الذي غرق في خجله واختنق بالصمت.

“لازم تسمعني حاجة من الحجازيات”

قالتها على سبيل المجاملة، كما يؤكد “الزين”، وغادرته نحو موعد “بروفتها” وتركته منتشيا حتى اليوم .. بتحية الأستاذ التي أدت إلى مجاملة الأسطورة!



الموسيقى بين فرقة الجيش وفرقة الإذاعة!


في الوقت الذي كان “الزين” يصقل موهبته في القاهرة، كان طارق عبد الحكيم يفتش عن عازفين للانضمام لأول فرقة موسيقية للإذاعة في جدة! وعلى الرغم من عدم وجود أي إشارة في أرشيف “الزين”، أو في ذاكرته، تفيد بتاريخ تأسيس فرقة الإذاعة بدقة، إلا إذا أخذنا بإشارة على لسان عبد الحكيم خلال سجاله مع “سمير الوادي” فيما نشره “الزين” في عدد 23 فبراير 1963 تحت عنوان: “تعلق قلبي بين طارق .. وسمير الوادي” إذ يقول: ” .. وتشهد بذلك الإذاعة التي قد سجلتها لها قبل ثلاث سنوات موسيقى تعلق قلبي”، ما يعني بدايات الستينيات الميلادية.

ونعلم إذا عدنا بالتاريخ إلى الخلف أن إنشاء الإذاعة السعودية يعود إلى رمضان 1949 بمرسوم ملكي بتوقيع الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي كلف الأمير فيصل بن عبد العزيز بتنفيذ الفكرة .. “بهدف ربط المملكة بالعالم الخارجي ونشر الثقافة والمعرفة في البلاد” كما يفيد اليوم موقع وزارة الإعلام.

ثم في العام 1955 تحول مسماها الرسمي إلى “المديرية العامة للإذاعة” قبل انضمامها بعد ذلك بوقت قصير إلى “المديرية العامة للصحافة والنشر” لتصبح مديرية واحدة برئاسة عبد الله بلخير، أحد رجال المؤسس، الذي كانت له الريادة في ترؤسها بمسمياتها العديدة ابتداء من العام 1955 حتى العام 1961/1962 ويروي قصتها بلسانه في حفل تكريمه بمنتدى الاثنينية في 24 يناير 1983 بقوله:

“أما رحلتي مع الإِذاعة فترجع بدايتها إلى عودة الملك فيصل – يرحمه الله – من مؤتمر باندونج [1955] حيث رأى المسؤولون أن تكون هناك هيئة خاصة بالإِعلام، مهمتها أن تكون مسؤولة عن الإِذاعة وأن ترد إليها جميع الصحف. وكانت الإِذاعة في ذلك الوقت موجودة ومديرها الشيخ إبراهيم فوده، ومن أعلامها وأقمارها الأستاذ طاهر زمخشري … فأنشئت ‘المديرية العامة للإِذاعة والصحافة والنشر’ وجئنا إلى جدة وبدأنا العمل في غرفتين من إحدى الفلل القريبة من القصر، ثم انتقلنا إلى طريق المطار. وخلال عملي بالإِذاعة فإن هناك من الأشخاص من يستحق الشكر والتقدير وعلى رأسهم الأستاذ غالب أبو الفرج الذي كان الجزء المحرك في الإِدارة، ويعمل ليل نهار، يبذل وينتج دون أن يفكر في نفسه. ومن أولئك المخلصين أيضاً الأستاذ عباس غزاوي، والأستاذ عبد الغني آشي والمستر إيدي الذي نلقبه أبا الإِذاعة وأمها ..”

إلى أن يقول:

“ثم طلب الملك سعود – رحمه الله – أن تتحوَّل هذه المديرية إلى وزارة وأصدر مرسوماً يقضي بتعيين وزير دولة لشؤون الإِذاعة والصحافة والنشر ريثما تنشأ وزارة الإِعلام، وكلَّفني بأن أبذل الجهد في سبيل تهيئة كل الوسائل والإِمكانات للإِسراع بتجهيز المكنات والأجهزة اللازمة والمعدات الضرورية التي تتطلبها وزارة الإِعلام المزمع إنشاؤها، ولم ندَّخر وسعاً في بذل الجهد حتى استطعنا أن نؤسِّس البناية، ونستورد الآلات، والمعدات وكل ما من شأنه تثبيت دعائم هذا الصرح الذي حمل صوت المملكة إلى كل أقطار الدنيا. وحينئذٍ صدر مرسوم ملكي يقضي تحويل المديرية العامة للصحافة والإِذاعة والنشر إلى وزارة تحمل اسم وزارة الإِعلام، كما نصَّ ذلك المرسوم على أن أتولّى تلك الوزارة. غير أن ظروفي لم تمكنّي من الاستمرار فتركت العمل”.

كما كان بلخير خلف إدخال الموسيقى إلى الإذاعة بحسب ما يؤكد طاهر زمخشري بقوله:

“بدأت فكرة الاستعانة بالموسيقى كفواصل بين البرامج، ويرجع الفضل في وضع الخطوة الأولى في إدخال الموسيقى في الإِذاعة السعودية إلى صاحب المعالي شاعر الشباب عبد الله بلخير”.

هذه الإشارة على لسان الزمخشري جاءت في حفل تكريم طارق عبد الحكيم في منتدى الاثنينية في 2 مايو 1983 (نفس العام) بمشاركة الأعلام محمد حسين زيدان وعبد الفتاح أبو مدين وأبو تراب الظاهري. وهنا يضيف الزمخشري بحسب موقع المنتدى:

“كما أن الأستاذ طارق عبد الحكيم هو رائد الموسيقى العسكرية في الجيش السعودي، وهو أول من قام بتأسيس فرقة موسيقية للإِذاعة السعودية”.

ويؤيده في ذلك عبد المقصود خوجة، راعي المنتدى، بقوله: “يوم كنت موظفاً بمديرية الإِذاعة والصحافة والنشر … كنا رفاق درب ورفاق طريق ورفاق محبة، يومها استعانت المديرية بخدماته من وزارة الدفاع والطيران المدني لتأسيس أول فرقة موسيقية للإِذاعة العربية السعودية”.

وعبد الحكيم، الذي صال وجال لانتزاع تاج “العمادة” مبكرا، كان قد سبق “الزين” إلى القاهرة بدايات الخمسينيات الميلادية مبتعثا من وزارة الدفاع لدراسة الموسيقى، وبشكل أدق من وزيرها آنذاك الأمير منصور بن عبد العزيز بهدف العودة وتأسيس مدرسة موسيقى الجيش السعودي لتساهم في رفد الساحة الفنية والإذاعة بعازفين متمكنين أمثال محمد الريس وعبد الله ماجد وعبده مزيد و ث/تواب عبيد الذين تلقوا تعليمهم الموسيقي في مدرسة موسيقى الجيش قبل انضمامهم جميعا إلى الإذاعة في وقت لاحق.



قناديل فرقة الإذاعة ومسرح الفرح!


لم يكن “الزين” غريبا عن الإذاعة السعودية أو “مسرحها” سواء في مقرها المتواضع بمكة المكرمة، في شكل غرفة صغيرة تضم خشبة مسرح ومجموعة كراسي قليلة، أو لاحقا في مقرها الرئيسي بجدة بل كان دائم التردد على الأولى لتسجيل أناشيد الترحيب بضيوف البيت الحرام وشهر رمضان والعيد في شرخ الصبا رفقة محمود خان وفؤاد زكريا، قبل انضمامهم جميعا لفرقة الإذاعة الموسيقية أو فرقة مسرح الإذاعة في بعض التسميات.

في مارس 1963 تحولت “المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر” إلى “وزارة الإعلام” بمرسوم ملكي أصدره الملك فيصل بن عبد العزيز وعيّن جميل الحجيلان وزيرا عليها. وفور تسلمه المسؤولية، شرعت الوزارة الجديدة في استحداث وظائف على مراتب مختلفة تقدم لها الكثير من أبناء الإذاعة، ومن ضمنهم “الزين” الذي جاء ترتيبه الأول من بين الموسيقيين المعينين على المرتبة السادسة براتب شهري قدره 800 ريال.

ومن بين العازفين الأوائل الذين انضموا لأحد الحفلات الإذاعية (وبعض هذه الأسماء لم تواصل حضورها فيما بعد):

1- عبدالله ماجد – كمان

2- محمد الريس – كمان

3- عمر كدرس – كمان

4- مهنا ساعاتي – كمان

5- ياسين بكر – كمان

6- محي الدين البنا – كمان

7- حسن يللي – كمان

8- رياض علي – كمان

9- محمود خان – كمان

10- فؤاد زكريا – كمان

11- “الزين” – قانون

12- تواب عبيد – ناي

13- ضياء عزيز ضياء – بيانو

14- محمد سعيد الزهراني – كونتراباص

15- بدر بطيش – إيقاع

16- صبري بطيش – إيقاع

ولم يكن مستغربا فكرة تكوين فرق موسيقية صغيرة تنشط في الحفلات الخاصة أو الإذاعة، بل كان بعضها يتشكل وينحل بين فترة وأخرى، كما حصل مع إحدى التكوينات المبكرة التي ضمت مزيجا من المخضرمين أمثال عمر باعشن ومحمد علي عمير وغيرهم إلى جانب الشباب أمثال محمد الريس وعلي باعشن و”الزين” وعمر كدرس .. إلى أن جاء الخبر في 29 يونيو 1963 في ملحق “دنيا الفن” بصحيفة البلاد على النحو التالي:

“أصدر سعادة المدير العام لشؤون الإذاعة تعميما بشأن تنظيم الفرقة الموسيقية للإذاعة:

١- الفنان محمد الريس رئيسا للفرقة الموسيقية ويكون مسؤولا عن جميع ما يتعلق بأعمال الفرقة الموسيقية من الناحيتين الإدارية والفنية بالإضافة إلى اشتراكه كعازف بالفرقة.

٢- الفنان علي باعشن نائب رئيس الفرقة ويشترك بالفرقة كعازف.

٣- الفنان عبدالله ماجد يكون مسؤولا عن التوزيع الموسيقي وكتابة النوتة للأغاني والمقطوعات الموسيقية التي تطلب من الفرقة”.

ومدير الإذاعة يومئذ عباس غزاوي، الذي أفسح المجال أمام العديد من “المواهب” ممن طرزوا لاحقا سماء الأغنية السعودية ومسرح الإذاعة والتلفزيون. أما الريس فكان من أشهر عازفي الكمان يومئذ، وساهم في انطلاقة طلال مداح في قصة معروفة دونها كثر من بينهم عبد الرحمن اللهيبي في كتابه “رجال الطرب الحجازي في الثمانين سنة الأخيرة من القرن العشرين”، إضافة إلى بداياته في فرقة موسيقى الجيش، لذلك ليس غريبا أن تسند إليه قيادة فرقة الإذاعة لبعض الوقت قبل أن ينتقل بعد ذلك في 1 نوفمبر 1965 إلى موقع جديد بحسب الخبر المنشور:

“محمد الريس الفنان المعروف سوف ينتقل عمله إلى قسم المطبوعات للإشراف على الاسطوانات وسماع الأغاني والتأكد من ألحانها وصلاحيتها بصفته فنانا قديرا قضى فترة كبيرة في الفن ويعرف الكثير من أغانينا الشعبية بألوانها المتعددة وهذه خطوة موفقة من المسؤولين في الإذاعة”.

أما علي باعشن أو “رياض علي” فهو موسيقي وملحن وسيتعاون منتصف الستينيات مع “عدد من المطربين من بينهم الفنان وديع الصافي والفنان مصطفى كريديه والصوت الجديد سميح لطفي” كما نشر يومئذ.

ويبدو أن الريس لم يمكث طويلا في قيادة الفرقة، إذ انتقلت قيادتها، أو تناوب على قيادتها مع عبد الله ماجد القادم أيضا من فرقة موسيقى الجيش، وهو ما يشير إليه الحوار الذي أجراه “الزين” في 2 نوفمبر 1963 مع المطرب السوري سمير الطويل بعد زيارته الإذاعة وتحضيره للمشاركة في حفل مسرحها إذ يقول:

“سرني جدا أن أجد في الإذاعة فرقة موسيقية من أمهر العازفين ووجدت فيهم حبهم الكبير للموسيقى وكم تمنيت أن تبعثهم الإذاعة في بعثة إلى الخارج لإكمال دراستهم الموسيقية … ولم أتمكن من معرفة أسمائهم جميعا وأذكر منهم قائد الفرقة عبد الله ماجد الذي يمتاز بثقافة موسيقية كبيرة وإجادة تامة للنوتة”.

أضف إلى هذه الإجادة تلحينه وتوزيعه للكثير من أغاني رفاق الفن حتى كاد أن يفرض أسلوبه الخاص في التلحين بعد أغنية “على المكشوف” فيما لو “حافظ على لونه واستمر في إظهاره” بحسب أحد الفنانين الذي همس بذلك بين الأسطر!

ولا يفوتنا التنويه بأسماء أخرى نشطت موسيقيا في الإذاعة في الفترة ذاتها لا تقل أهمية عن الريس وباعشن وماجد، هذا إن لم تفقهم بحكم إنتاجها الغزير أبرزهما “سمير الوادي” بمقطوعاته الموسيقية إلى جانب عمله مديرا لفرقة الإذاعة، إضافة إلى حامد عمر الذي نشر عنه “الزين” في أول عدد له في “دنيا الفن”:

“قدم من القاهرة الفنان حامد عمر عولقي بعد غيبة طويلة عن الوطن الحبيب إذ كان ملتحقا بمعهد الكونسيرفاتوار الإيطالي الليوناردو دافنش لدراسة الموسيقى، وللفنان مؤلفات موسيقية بالإذاعة .. منها أمسيات واشراف والزفة والهدى .. موهبة نرجو أن تلقى التشجيع الكافي من المسئولين في الإذاعة لتثمر”.



وقود الحبر وبدايات الصحافة الفنية!


ازدحم قلب “الزين” بالموسيقى والأدب. فأشبع الأولى بانضمامه للإذاعة وملأ الثانية بالكتابة الصحفية. يومئذ كانت الصحافة المتخصصة، أو ما عرف لاحقا بالصحافة المتخصصة ممثلة بصفحات الأدب والرياضة والفن، تسلك خطواتها الأولى.

وكما فرضت الموسيقى حضورها من نافذة الهواية، أطلت الصحافة المتخصصة من النافذة ذاتها، مفسحة المجال لطموح المواهب الطرية التي وجدت في تداول صورها وأخبارها ومعاركها ما يسقي “أناها” بحبر الصحف، ويمدها بالوقود اللازم لتواصل صعودها نحو ضوء الشهرة.

كان ملحق “أفانين” بتوقيع حمدان صدقة في مجلة “الرائد” الأسبوعية الصادرة في 1959 برئاسة عبد الفتاح أبو مدين سباقا في تخصيصه صفحة للفن، ويكاد ينفرد بشكل حصري بين الملاحق الفنية الشحيحة يومئذ بأحاديث الفن والأخبار الحصرية والتعليقات على ما يدور في الساحة الوليدة. وكانت أخبار “الزين” ورفاق الفن تجد طريقها إلى “أفانين”، ما ساهم في توطيد علاقة “الزين” بصدقة. وكانت الإذاعة بمثابة معهد مصغر، ووحيد تقريبا، لاكتشاف المواهب الموسيقية من عازفين ومغنيين، أو ملاذا لأصحاب المواهب في فنون التمثيل المسرحي والمونولوج، ما جعلها منجما ومصدرا شبه وحيد للأخبار.

أما القوالب الصحفية التي سادت الصفحة، فكانت مزيجا يجمع ما بين الخبر والرأي والتقرير في الغالب، ثم الحوار بدرجات أقل، وغياب شبه تام للمواد الميدانية. كما ازدهرت الأخبار المرسلة التي تخلط الرأي بالمعلومة، أو تروج أحيانا النميمة في قالب الخبر الحصري! ولم يكن ذلك ليعيب الصحافة، فالقواعد المهنية لم تكن مستقرة وراسخة في جسم الصحف كما تعرفها الصحافة الرصينة اليوم. وكان “الاجتهاد” يحكم بأمره، وما سرى على الصحافة الفنية سرى على باقي الملاحق والأقسام بدرجات متفاوتة وإن كانت متقاربة.

تشرب “الزين” أسلوب حمدان صدقة في “أفانين” وزاد عليه، فالقراءة الموضوعية لخطاب الملاحق الفنية، وعلى الأخص الملاحق المرصودة هنا والتي أشرف عليها “الزين” ابتداء من “دنيا الفن” في صحيفة البلاد ثم “جولة الفن” في صحيفة عكاظ والممتدة على 114 ملحقا، تشير بوضوح إلى أن “الرؤية التحريرية” كانت تقدمية بامتياز. تنطلق من هاجس دائم لتكريس الفن في المجتمع، وتسعى إلى تقديم جرعة تثقيفية عن الموسيقي وتاريخها وأعلامها، وتعزز حضور “الصوت النقدي” في محاولة لتصويب حماسة الفنانين الزاعقة، التي جنحت أحيانا إلى المبالغة في إثبات الحضور أو استعجال النجاح.



صراع المصالح المتضاربة والاسم المستعار!



تحقق حلم “الزين” في الجمع بين وظيفته في الإذاعة عازفا في فرقتها الموسيقية وبين الكتابة الصحفية عبر تأسيسه لملحق “دنيا الفن” في صحيفة البلاد في 14 يوليو 1963 .. يومها كتب في افتتاحية الملحق:

“يسرنا وقد افتتحت البلاد هذا الركن الذي يكون في خدمة الفن والفنانين .. كما يسرنا أن يتعاون معنا كل الفنانين في تقديم ما لديهم من آراء ومقترحات، ويسرنا أن يتجاوب معنا القراء حتى يتمكن هذا الركن من أداء رسالته الفنية ورفع مستوى الفن فلذلك يجب أن نجند قوانا الفكرية ومواهبنا الذهنية ومشاعرنا الحسية إلى خلق نهضة عربية جبارة في جميع ميادين الحياة .. وليس هناك أقوى من الموسيقى في تدعيم وتوجيه هذه الميادين. ويسرنا أن ننوه عن الجهود التي تقوم بها الإذاعة السعودية في عهدها الجديد من جهد جبار وإخلاص في سبيل خدمة الموسيقى ورفع مستواها وذلك لتشجيع ذوي المواهب والخبرة الفنية في التأليف الموسيقي ووضع الألحان ولا عجب فهي الوسيلة الصالحة لنشر خلاصة نتاجنا الفني الممتاز.

ونحن نفخر بإذاعتنا الحبيبة التي ترعى وتحبو الموهوبين من الموسيقيين فتشجعهم على المضي قدما بفنهم فتقدم بذلك غذاءا روحيا للمواطنين يحفزهم للعمل وزيادة الإنتاج.”

اللافت أن التوقيع أعلى الملحق كان باسم “أبو وفاء”؟!

ثم اختفى التوقيع في الملحق التالي، ثم حضر بالاسم الصريح في الأعداد اللاحقة ثم توارى بدون أي توقيع طيلة تعاونه مع “البلاد” قبل أن ينتقل إلى “عكاظ” ليؤسس ملحق “جولة الفن”. وهكذا، يحضر تارة ويغيب طورا آخر! إلى العدد الصادر في 14 يناير 1966 الذي اعتمد فيه لقب “الزين” واحتفظ به حتى اعتزاله المبكر للفن والصحافة بنهاية يوليو 1967!

هذا التردد في الكتابة بالاسم الصريح والتخفي بأسماء أخرى كان دافعه “تضارب المصالح” بين عمله في الإذاعة وتحريره للملاحق الصحفية، خصوصا عند اشتداد النقد على ما يدور في الإذاعة وكواليسها، الأمر الذي تسبب في أحد المرات إلى تهديد صريح بالفصل بعد مقال كاشف وتفصيلي نشره في 9 نوفمبر 1963 بعنوان: “نريد مسرحا غير هذا” بقلم مهنا ساعاتي جاء فيه:

“حديثي اليوم عن مسرحنا ‘مسرح الإذاعة’ هذا المسرح الذي بدأ منذ مدة وانقطع لأسباب فنية ثم بدأ ثانية منذ عدة شهور وقدم على خشبته الكثير من فنانينا المرموقين أمثال طارق وعبدالله محمد وطلال وعبد القادر حلواني، كما قدم أيضا بعضا من إخواننا الفنانين الأجانب كان منهم المطرب اللبناني صابر الصفح والمطرب العدني أبو بكر بالفقيه والمطرب السوري محمد الطويل وقدم أيضا عددا لا بأس بهم من الهواة الذين يرحب بهم دائما في الأغاني والتمثيليات. إلا أن هذا المسرح – كما هو معروف – استديو للتسجيل لا يصلح لأن يكون مسرحا لأنه لم يصمم أصلا لأن يكون كذلك، وهذا لعدة أسباب يعرفها الفنيون في الإذاعة – هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إنه لا يستوعب أكثر من ٢٠٠ شخص بعضهم يظل واقفا طوال الحفل.

وهذا ليس لعدم وجود مقاعد لهم ولكن لدخولهم المسرح بدون تذاكر، لذلك لا يجدون مقاعد لهم مما يضطرهم إلى الوقوف في الممر المؤدي إلى المسرح، مما يعرقل الموسيقيين والممثلين أثناء صعودهم إلى خشبة المسرح وطبعا هناك كثيرون غيرهم ينتظرون خارج أبواب الإذاعة على أمل أن يجدوا وسيلة لدخول هذا المسرح لأن الدخول مجانا والتذاكر موزعة على عدة جهات حكومية والمقاعد محدودة والقائمين على هذا البرنامج في موقف حرج أمام المواطنين.

وهنا تجدني أتساءل: لماذا لا تشرع وزارة الإعلام في إنشاء مسرح كبير يضم 1500 مقعد على الأقل، يراعى فيه جميع النواحي الفنية والصحية الحديثة ويكون في موقع ممتاز خارج البلد، وجعل الدخول إليه بموجب تذاكر ذات قيمة معقولة. إن هذا ليتيح الفرصة لأكبر عدد ممكن من المواطنين للاستمتاع بما تقدمه الإذاعة من برامج على هذا المسرح مع ملاحظة التعاقد مع المطربين والممثلين والاتصال بالأدباء والكتاب، وبتضافر هذه الجهود مع رجال الإذاعة يمكننا أن نضمن إخراج المواد التي ستقدم على المسرح إخراجا سليما ومنظما – يومها نستطيع أن نقول أن لدينا مسرحا شعبيا نعتز به. ولي في معالي وزير الإعلام كبير الأمل في إدراج هذا المشروع ضمن المشاريع الضخمة التي ستقوم الإذاعة بتنفيذها ونحن في الانتظار.”


حلم البعثة ووعد الحجيلان!


حلم الوظيفة صاحبه حلم أكثر إغراء .. البعثة الدراسية! التي تعني تعلم “النوتة” وإتقان العزف على الآلة الموسيقية، والذهاب بعيدا في تحقيق ما لم يتحقق في المرة الأولى!

تعمق الحلم عندما “فاجئ” الوزير الشاب جميل الحجيلان الإذاعة بزيارة بعد مضي ستة أشهر على تعيينه. وخلال لقاءه بشباب الفرقة الموسيقية المهجوسين بالفن، زف لهم البشرى بحسب ما نشر في 25 أغسطس 1963 في “دنيا الفن” تحت عنوان: “حلم يتحقق .. ” وجاء على لسان الحجيلان:

“سوف نرسلكم في بعثة موسيقية إلى بيروت أو إلى إحدى الدول العربية لدراسة النوتة الموسيقية ولأن وقت العزف بالسماع قد انتهى ولأننا نريد أن تكون للإذاعة فرقة موسيقية قوية تضاهي الفرق الموسيقية في الإذاعات الأخرى”.

كانت الخلافات بين السعودية ومصر قد بلغت يومئذ سقفا مرتفعا في ظل تداعيات تدخل الرئيس جمال عبد الناصر في اليمن وما صاحب ذلك من أعمال عدائية تجاه المملكة، هددت فيما هددت فرص الابتعاث إلى مصر، في حين ظلت بيروت في مرمى الأمل، أو هكذا ظن “الزين”، الذي شعر أن أفضل طريقة لبلوغ حلم الابتعاث هو عبر تكثيف التغطية الصحفية. ومباشرة في العدد الذي تلى الزيارة الموافق 1 سبتمبر 1963، نشر تحت المانشيت الرئيسي: “بعثتنا الموسيقية .. خطوة موفقة ..” بقلم يعقوب محمد إسحاق، وإن طفحت النبرة يومئذ بالقسوة:

“كانت الموسيقى في بلادنا حتى الأمس القريب مجرد دق طبول ونفخ مزامير والطرق على الوتر يقوم بها كل من هب ودب من دعاة الفن والدخلاء عليه عن طريق السماع والتقليد والانتحال حتى جاء اليوم الذي ظهر فيه بعض هواة الموسيقى الذين قاموا بجهودهم الشخصية بالاطلاع على بعض مبادئ الموسيقى فظهرت بعض أعمالهم وفيها الإنتاج الرائع إلى جانب الهزيل”.

ليصل بعدها إلى جوهر المقال بقوله: “وأخيرا قيض الله لنا معالي وزير الإعلام الشيخ جميل الحجيلان حيث وعد في زيارة له لفرقة موسيقى الإذاعة بإرسال بعثة من هواة هذا الفن لتلقي العلم من منبعه على أيدي الذين سبقونا في هذا المضمار ومضوا شوطا بعيدا فيه … إنني مع كل من يقدر الفن الأصيل انتظر أن يعلن عن تاريخ الابتعاث في أقرب فرصة ممكنة”.

وكان كلما خفت صوت المناشدة الواضحة، صعد صوت هادئ يصب في النهر ذاته، ليذكّر بصورة غير مباشرة بالهاجس الأول، كالموضوع الرئيس المنشور في عدد 28 سبتمبر 1963 تحت عنوان: “النوتة الموسيقية .. وفوائدها” بقلم عبد العزيز مليباري جاء فيها:

” … وتتكون الموسيقى من عنصرين أساسيين هما اللحن والزمن، فللحن اصطلاحات خاصة لكتابة وضبط طبقاته، وللزمن اصطلاحات وقواعد مختصة بمقادير وضبط لأوزانه، وهي تقرأ كباقي المقروءات ويسمونها النوتة التي هي عبارة عن علامات وحروف واصطلاحات كتابية لحفظ فن الموسيقى”.

حتى يقول “ولهذا فإني انصح كل فنان يتذوق الموسيقى ويرغب تعلمها يحاول أن يتعلم النوتة على أساسها الصحيح وطريقتها السليمة بل أنصح الفنانين الذين ما زالوا مثلي في أول السلم”.

أنموذج مقال المليباري يؤكد “الروح الاجتهادية” التي لازمت المرحلة، وتاقت إلى مكانة أبعد مستعينة بكل ما يقع في يديها لبلوغ المرام، نجد طرف ذلك في توضيح المليباري: “وهذه فكرة عابرة عن الموسيقى أخذت من كتاب مبادئ العلوم الموسيقية”.

لكن ثمة كتاب آخر يفوقه أهمية، بعنوان “كيف تتذوق الموسيقى” نشر في العام 1939 للأمريكي آرون كوبلاند (1900 – 1990) المؤلف والموسيقار الحائز على عديد الجوائز الموسيقية والنقدية ومن ضمنها جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية لفيلم (1949) THE HEIRESS .. وهذا الكتاب، الذي صدّر نسخته العربية الموسيقار محمد عبد الوهاب، اقتبس منه “الزين” فصولا نشرها تباعا خلال مرحلة “دنيا الفن” تحت العناوين التالية: “كيف نستمع للموسيقى” و “مرحلة الابتكار الموسيقى” و”عناصر الموسيقى الأربعة” التي جاءت على أربع حلقات تناولت الإيقاع والميلوديه والهارمونيه والطابع الصوتي.

استمر التنوير بمكانة العلم في التفوق الموسيقي بجانب “التحذير” من حالة الفوضى السائلة، وهذه المرة بقلم عبد العزيز بن عبد الرحمن بن سعيد بن الشيخ في “دنيا الفن” بتاريخ 12 أكتوبر 1963تحت عنوان: “في سبيل البناء!” يقول فيها:

” … فالبلد في حاجة إلى تخطيط فني كالتخطيط الاقتصادي والصناعي ومجتمعنا الفني في هذه الفترة اختلط فيها الحابل بالنابل فقد ظهر كثير من المتخلفين الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، يعزفون بعض الآلات ولا يعتمدون على مبادئ علمية أساسية في الفن. فالفنان المحترف لابد أن يكون على أساس علمي لكي يشق طريقه في حياته الفنية لتحقيق مسعانا في بلوغ الغاية والمجد”.

تابعه في عدد 26 أكتوبر 1963 بمقال لحمود ضاوي الحمود بعنوان: “كيف ننهض بمستوى موسيقانا؟” أوضح فيه:

“والفنانون السعوديون تعرضوا لصعوبات كثيرة حيث لا يوجد مدرسة لتعلم الموسيقى ودراسة النوتة ولم يكن هناك مجال يسمح للطالب للدراسة لأن الأب والأم والقريب والمجتمع يذم الموسيقى ويعتبرها شيئا لا حاجة لنا به ولم يجد من يهوى الموسيقى وسيلة توصله لكي يتعلمها إلا بطريقتين الأولى إما أن يسافر للخارج ليتعلم هناك أو يتعلم مختبئ عن أقاربه حتى لا يعيبوه رغم كل ذلك فقد استطاعوا أن يتغلبوا على كثير من الصعاب التي واجهتهم”.

مناشدا بطبيعة الحال وزير الإعلام بقوله: “وإني أضع هذه الكلمات أمام وزارة الإعلام حتى لا يهمل الفن السعودي ويندثر. فبلادنا غنية بالمواهب والفلكلور الشعبي والموسيقيين ولا ينقصنا غير الدراسة والمران”.



الفرقة الموسيقية وصراع القوى!


في خبر صغير أعلى زاوية العدد الصادر في 22 ديسمبر 1963 لملحق “دنيا الفن” كتب “الزين”:

“وصل إلى جدة بعض أفراد الفرقة الموسيقية السورية التي تعاقدت معها الإذاعة وهم الفنانين: كمال داغستاني – عازف كمان شيلو

مروان مصري – عازف كمان فيولونسيل

سيمون فرنجيه – عازف كمان

نقولا حداد – ضابط إيقاع

وسوف يصل بقية أفراد الفرقة قريبا”.

كما تزامن في نفس العدد خبر مقتضب في ذيل الصفحة تحت عنوان “تساؤل” جاء فيه:

“الوسط الفني يتساءل عن موعد إرسال بعثتنا الفنية للدراسة في الخارج خصوصا بعد وصول الفرقة الموسيقية التي تعاقدت معها الإذاعة.”

كان وصول الفرقة بمثابة خبر مفرح لأعضاء فرقة الإذاعة السعودية، فالإذاعة كما يروي “الزين”، استقطبت عازفين محترفين من سوريا استعدادا لابتعاث شباب الفرقة من السعوديين لتعلم الموسيقى في أحد الدول العربية.

ومصداقا للخبر الأول، اكتمل عقد الفرقة “المحترفة” ليبلغ ثمانية أفراد بمشاركة أسماء سيكون لها بصمة واضحة أمثال عدنان محبك (قانون)، ومهران بلخيان (كمان)، وقانصوه قات (أكورديون)، وعبد السلام سفر (ناي)، والأخير سيكبر اسمه مع الأيام حتى يغدو علما من أعلام الموسيقى العربية في العزف على الناي، وأول من أسندت إليه قيادة فرقة الإذاعة الموسيقية من غير السعوديين في 2 فبراير 1964.

هذه الأسماء كفلت لشباب فرقة الإذاعة فرصة الاحتكاك بمدارس موسيقية قطعت شوطا بعيدا في احتراف الموسيقى، كما فرضت تنافسا طبيعيا بين الجميع لإثبات الذات واستحقاق المواقع.

وبحلول 23 نوفمبر 1964، لم تكتف الفرقة الموسيقية للإذاعة بخدمة الفن في جدة بل كانت تستعد للمغادرة إلى الرياض “لتسجيل مجموعة كبيرة من الأغاني والموسيقى لفناني الرياض والمناطق المجاورة” استعدادا لتدشين إذاعة الرياض التي ستنطلق “في القريب العاجل” بحسب ما نشر وقتئذ.

كان طارق عبد الحكيم من بين الفنانين الذين سيسجلون في الرياض متعاونا مع عبد السلام سفر الذي سينتدب إلى إذاعة الرياض لفترة وجيزة حتى منتصف يناير 1965.

لا يمكن الزعم أن الأجواء كانت متوترة بين الموسيقيين السعوديين والسوريين، إلا أن قدومهم ساهم في خلق حالة من فقدان الثقة لدى الشباب السعودي، خصوصا في ظل الفارق “التقني” لدى نظرائهم السوريين. إضافة إلى عقدة العقد، المتمثلة في اعتماد العزف السماعي في مقابل اعتماد السوريين على النوتة، الأمر الذي أفقد الفرقة انسجامها وفتح المجال لتسلل النشاز لصعوبة التعايش بين اللغتين، على الرغم من البروفات المكثفة لتلافي ذلك، وسرعة الشباب وحماستهم على الحفظ كما يؤكد “الزين” بقوله: “كنا نستمع لحفلة أم كلثوم في المساء ونعزفها في اليوم التالي” مضيفا بإعجاب يقطر فرحا:

“أما الكدرس فكان يحفظ على طول!”.

ولعل ما صعّب المهمة أيضا إهمال بعض الفنانين في حضور البروفات، ما استدعى الكتابة عنه يومئذ بما نصه:

“مسؤول في قسم الموسيقى بالإذاعة مستاء من بعض الفنانين الذين يشتركون في مسرح الإذاعة والسبب أنهم لا يحضرون البروفات إلا في وقت متأخر قبل الحفل بيوم أو يومين وهذه المدة لا تكفي لعمل البروفات وكتابة الأغنيات التي تقدم على المسرح فلا بد من عمل بروفات كافية لكي يستوعب اللحن الموسيقيون ويستطيع المطرب أن يعرف دوره كاملا وكثيرا ما يحدث ارتباك بين المطرب والموسيقيين على المسرح والسبب تأخر المطرب عن البروفات. ونحن نأمل [من] فنانينا مراعاة ذلك والتعاون والحضور قبل الحفل بفترة كافية لأن في ذلك مصلحة الجميع.”

إلا أن أكثر ما أزعج “الزين” تدويره عازفا بين الآلات وهو المخلص لآلة القانون. فتارة يجد نفسه عازفا على العود أو ضاربا على الإيقاع وطورا يؤدي مع الكورال! ومع كون ذلك ليس غريبا بين أفراد الفرقة الواحدة في العموم، أو في الخصوص كما حصل عندما سافر عازف الأكورديون قانصوه قات إلى سوريا في إجازة قصيرة وأخذ مكانه عازف الكمان سيمون فرنجية؛ وإذا حصل ذلك بين “المحترفين” فلماذا لا يحصل مع “الزين” ورفاقه؟!

هل دفعتهم حساسيتهم المفرطة وشعورهم الدائم بالتهديد إلى تحميل الأمر فوق احتماله؟

ومع ذلك، لم تكن لهذه التفاصيل الصغيرة أن تخدش العلاقات المثمرة التي نشأت وتعززت بين الموسيقيين السعوديين والسوريين، كما يؤكد “الزين” مضيفا بقوله: “تعلمت من الجميع وخصوصا من عازف القانون عدنان محبك الذي توطدت صداقتي به وتشاركنا العديد من المناسبات”.

هنا انتهز طارق عبد الحكيم الفرصة لبث نقدٍ مشفر بعد قرابة السنة من وصول الفرقة نشره “الزين” في “جولة الفن” في “عكاظ” بتاريخ 4 يناير 1965 ضمن خبر ظاهره .. “أوبريت عن نهضة المملكة” جاء فيه:

“أهم مشروع أفكر فيه الآن للمستقبل القريب إن شاء الله هو وضع أوبريت عن نهضة المملكة خلال العشرة أعوام الأخيرة ويشترك فيه مجموعة كبيرة من الفنانين”.

أما باطنه، على لسان عبد الحكيم: “ولي أمنية في هذه الحياة هي أن أرى اليوم الذي يصبح فيه لأبناء بلادي من العازفين المكانة التي تليق بهم وأن يلاقوا من التشجيع الكافي الكثير”.

إلى أن يقول: “وحتى لا يرتقي الأجانب على حسابهم وعلى حساب سمعتهم، فلا نعود نرى عازفين أجانب يحضرون برواتب كبيرة في وقت يوجد فيه من يماثلهم من أبناء الوطن، والمفروض أن يحضروا ليدربوا لا لأن يتدربوا على طرق عزف المجرور والسامري والعرضة واليماني وغيرها من الجوانب الفنية الأصيلة”.

بعدها، في يوم من أيام مارس 1965، أصدر مدير عام الإذاعة عباس غزاوي قرارا بتعيين عازف الشيلو كمال داغستاني قائدا لفرقة الإذاعة، بديلا لمواطنه عبد السلام سفر، إضافة إلى تعيين “عازف الكمان الأول”، بحسب نص الخبر، مهران بلخيان مستشارا للقسم الموسيقي إلى جانب إشرافه على “التسجيل والنوتات الموسيقية وتدريب السعوديين والكشف عن الألحان التي تقدم للإذاعة ومعرفة الأصوات الصالحة”.

وبلخيان، وهو أحد الأسماء المهمة والنشطة في فرقة الإذاعة، كان إلى جانب تدريسه النوتة الموسيقية يكتب ويوزع أغاني الكثير من الفنانين والملحنين الشباب، حتى أنه كان قد “خصص 15 دقيقة كل يوم لتدريب أفراد الفرقة على الكثير من الأشياء الموسيقية اللازمة لكل عازف موسيقي”.

إلا أن طارق عبد الحكيم جدد في 18 مايو 1965 مناشدته لوزارة الإعلام بقوله:

“رجائي من وزارة الإعلام فتح معهد لعموم الفنون كالموسيقى والتمثيل والرسم والنحت حيث يوجد بين أبناء هذا البلد خامات جيدة تحتاج إلى دراسة بسيطة لتظهر هذه المواهب التي نحن في حاجة إليها لسد الفراغ … ولنكتفي ونقوّم أنفسنا بأنفسنا”.

كما تزامن مع ذلك، تزايد حدة النقد “للأفكار” الموسيقية الجديدة التي طرأت على عزف فرقة الإذاعة. والمعترض هذه المرة هو عمر باعشن الذي أبدى عدم رضاه عن “التوزيع الجديد” الذي أدخل على أغنيتي “ألف ألف يا زين” و “يالله يا عالم الضمائر” القادمتان من عمق الفلكلور، ولم يكتفي بذلك بل توعد بحسب ما نسب إليه في الخبر المنشور في 20 يوليو 1965:

“[أنه] إذا أراد الغناء مستقبلا للإذاعة فسوف يغني منفردا أو بمصاحبة فرقة سعودية محلية وبدون توزيع جديد لأن التوزيع والتطوير يفقدها روحها وشعبيتها وطابعها المحلي”.

كما أيده في هذا الاعتراض الصريح عبد الفتاح أبو مدين الذي كتب في بابه اليومي “أكثر من فكرة” بصحيفة عكاظ:

“لم يعجبني ما سمي بالتطوير في أغنيتي ‘ألف ألف يا زين’ و ‘يالله يا عالم الضمائر’، لحن الأغنيتين ‘يماني’ ولا يصلح لهما غير ذلك، وما سمي بالتجديد والتطوير ما هو في رأيي إلا مسخ أضاع الإنشاد فأصبحت الموسيقى في واد والمنشد في آخر فضاع الرونق وسيطر النشاز. والتجديد لا يكون بقلب الأوضاع والتطوير من الصعب أن يغزو كل شيء. ومن الأصوب أو الأسلم أن يرد لهاتين الأغنيتين لحنهما الأصلي الذي يتفق معهما روحا ومعنى”.

وعندما حضر وزير الإعلام إلى الإذاعة مرة أخرى، كادت تنهال عليه أسئلة “الابتعاث” الحائرة لولا “ضيق الوقت” بحسب ما نشر عن الزيارة في 20 يوليو 1965، حيث تفقد الوزير قسم الموسيقى في الإذاعة “وصافح أفراد الفرقة فردا فردا” واستمع إلى مقطوعة “رقصة الخيل” من تأليف “سمير الوادي” وعزف الفرقة “فكان إعجاب معاليه كبيرا بأداء الفرقة … ووعد بالاستجابة إلى جميع مطالبهم في أقرب فرصة وطلب تسجيل موسيقات الأغاني المشهورة لكبار الفنانين مثل أغاني الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب”. وهي التوصيات التي دأب الحجيلان على تمريرها للفنانين بشكل مباشر أو عن طريق المسؤولين.

وختم “الزين” تغطيته الخبرية بالسؤال الذي ظل بلا إجابة لسنتين:

“هناك سؤال كان يدور بخلد الموسيقيين السعوديين … ألم يحن الوقت لإرسال البعثة الموسيقية التي كان في نية وزارة الإعلام إرسالها لتعلم أصول الموسيقى والتدريب وهو الذي وعدنا في زيارة لنا قبل عامين، فقد قال معاليه سوف نرسلكم في بعثة موسيقية إلى بيروت أو إلى إحدى الدول العربية لدراسة النوتة الموسيقية ولأن وقت العزف بالسماع قد انتهى ولأننا نريد أن تكون لنا فرقة سعودية تضاهي الفرق الموسيقية في الإذاعات الأخرى.”

لكن الصدمة وقعت في قلب “الزين” ورفاقه بشكل نهائي عندما تأكد إلغاء البعثات لمنسوبي الإذاعة، وهنا يقول بمرارة: “تعبت نفسيا بسبب ذلك” ثم يضيف بصوت راعف: “كيف سننافس مع زملائنا السوريين!”.



اللهو البريء ومدرسة كل الطبقات!


م تنطفئ جمرة الابتعاث ولكنها خبت تحت وهج الوافد الجديد ..

بصوت خافت، وخبر مقتضب صادف يوم 11 مايو 1965 كتب “الزين”:

“التلفزيون الكثيرون في شوق إلى رؤيته. كتبت الصحف الكثير عنه وعن الاستعدادات الكبيرة التي قامت بها وزارة الإعلام من أجل إظهاره إلى حيز الوجود فهو بلا شك حدث جديد وأداة فعالة للتثقيف وهو يصور وسائل الترفيه البريء ونحن في حاجة ماسة لرؤيته ورؤية برامجه.”

الكلمة المفتاحية في الخبر أعلاه تمثلت في “الترفيه البريء”، وهي الإشارة التي سمحت لإنشاء التلفزيون بمحطتيه، الرياض وجدة، كما يوضح عبدالرحمن الشبيلي في برنامج “قصة التلفزيون” الذي عرض في قناة الثقافية في 26 أبريل 2012 من تقديم عبد الرحمن السعد، يقول فيه:

“من خلال بحثي في وثائق التلفزيون لم أجد نصا نظاميا واضحا اعتمدته الحكومة لإنشاء التلفزيون، بمعنى قرار من مجلس الوزراء أو مرسوم ملكي أو أمر ملكي، على العكس من الإذاعة السعودية التي بدأت في 1949 في عهد الملك عبد العزيز بمرسوم ملكي … مختصر بليغ وجميل جدا لا ينبغي لدارس الإعلام أن يفوت الاطلاع عليه.”

ثم يضيف الشبيلي، وهو أحد مؤسسي التلفزيون منتصف الستينيات إضافة إلى مناصبه المختلفة في إذاعة الرياض ثم وزارة الإعلام بقوله:

“لم يصدر أداة نظامية كما يسمى في العرف القانوني … الذي صدر تلميحات وأذكر منها على سبيل المثال أن منهج الإصلاح الداخلي الذي تبناه الأمير فيصل عندما شكل الحكومة في عام 1382 للهجرة [1962] في عهد أخيه الملك سعود ألمح في إحدى الفقرات إلى الترفيه البريء ففسرت أو فهمت في ذلك الوقت على أن هذه الفقرة تعني إدخال التلفزيون”.

ازداد الترقب للتلفزيون بعد إقرار ساعات البث بساعتين لكل يوم وثلاث ساعات ليوم الخميس وأربع ساعات ليوم الجمعة. أما برامج البدايات فكانت “القرآن الكريم وبرنامج الأطفال، مسلسلات أجنبية، أغان منوعة، مباريات كرة القدم، الأخبار”.

لكن أغسطس 1965 شهد تطورا، بدا منطقيا حينها، وهو أن فرقة الإذاعة الموسيقية في إذاعة جدة “أصبح عملها مشتركا بين الإذاعة والتلفزيون”، بحسب الخبر، وبالتالي تسجيل الأغاني والمشاركة في مسرح التلفزيون الذي لم تتضح معالمه بعد. ودون أن يعني ذلك تقليل نشاط الإذاعة المعتاد التي نشطت في إثبات موقعها في ظل مزاحمة الشاشة الصغيرة. وقتها، كلّف مدير الإذاعة عباس غزاوي عازف الناي عبد السلام سفر بتدريب فرقة الكورال في الإذاعة “وذلك استعدادا للأغاني الجماعية التي سوف يقدمها التلفزيون السعودي خلال الأشهر القريبة القادمة”.

الطريف أن أول ما تحقق للفرقة هو تجملها للوافد الجديد ” .. جميع الأغاني التي ستسجل للتلفزيون كما أن كل الفنانين الذين سيظهرون سيرتدون الزي السعودي”. هذه التفصيلة البسيطة ظلت بعيدة المنال زمنا طويلا بالرغم من النقد المبكر “لاختلاف الأزياء في فرقنا الموسيقية في الحفلات الشعبية والرسمية مثل حفلات الزواج وحفلات مسرح الإذاعة. فما أجمل أن نرى توحيد الزي في الفرق الموسيقية وفي الأفراح وفي كل حفلة لأن ذلك يعطي جمالا للفرقة بجانب النغمات الحلوة التي تصدر من آلاتهم.”

واللافت أن المرجعية التاريخية التي استهل بها “الزين” تقريره الصحفي تضمنت قصة مناقضة لبعض الروايات التاريخية فيما يخص بدايات ظهور الزي الموحد للفرق الموسيقية في القرن الثامن عشر، عندما كانت الفرق تعزف في بيوت النبلاء والنخب وترتدي زيا موحدا كما هو الحال للخادمين في القصور والبيوت!

المفارقة الطبقية، إن صح التعبير، أن قصة “الزين” تنتصر للخدم هذه المرة إذ يقول:

“من أكبر القادة للفرق الموسيقية في القرن العشرين كان ‘ارطوروا توسكانيني’ وصادف أن سافر من إيطاليا إلي أميركا على إحدى البواخر تصاحبه فرقته الموسيقية. وفي يوم من الأيام أمر الفرقة بارتداء زيهم الرسمي الذي تعودوا ارتداءه في الحفلات الرسمية واستعدت الفرقة للعزف وإجراء البروفات لبعض الأناشيد ولم يكن موجود أمامهم سوى بعض خدم الباخرة، وسأله أحدهم عن سبب ارتداء الفرقة الزي الرسمي فأجاب أن اليوم هو ذكرى عيد الجلاء عن إيطاليا وهذه مناسبة عظيمة تستحق منا الاحتفال ولا بد من ارتداء زينا الرسمي”.

كما خلخل التلفزيون بعض القناعات المهنية، فهذا محمود خان، الفنان وعازف الكونتراباص في الفرقة الذي احتجب فترة عن الإذاعة، يستشرف المكانة التي سيحتلها الوسيط الجديد برغبته عرض موهبته على المسؤولين عن التمثيل في التلفزيون بعد أن استهلك كل أدواره التمثيلية التي كان يؤديها بشكل يومي أمام زملاءه في الإذاعة مؤكدا بقوله: “إنه سوف يترك قسم الموسيقى والعزف على آلة الكونترباص إذا أثبت جدارته ونجح في فن التمثيل”! في حين اتجه “مؤلف أغاني معروف” إلى كتابة التمثيليات للتلفزيون، ضمن بعض الهجرات التي تسللت بعض أخبارها إلى الصحافة دون تسمية أصحابها! أما أهل المونولوج أو الممثلون وكتاب المسرحيات الإذاعية فجاء التلفزيون معززا لمواقعهم السابقة، طلبا وانتشارا، أمثال حسن دردير ولطفي زيني وسعد التمامي وعباس أبو شنب الذي اشتهر باسمه الفني “أبو خداش”، وطبعا عبد العزيز الهزاع، الذي لن يكتفي بالمحلية بل سيلاقي نجاحا يأخذه حتى مسرح “السان جيمس” بعاليه!

هذا الوهج الذي أحدثه التلفزيون خلال أول شهرين قوبل بتحية من الصحافة. فكتب محمد علي قدس في “جولة الفن” بتاريخ 7 مارس 1966 تحت عنوان “ونجح التلفزيون”:

“لاحظ الجميع أن الإقبال على أجهزة التلفزيون كبيرا جدا وهذا يدل على حدث جديد التف الناس حوله وكان منقطع النظير … يعرض على شاشته بعض الأغاني التي قام بتسجيلها بعد أن كانت الأغاني مجرد صور صامتة”.

وكتب محمد رجب في نفس العدد تحت عنوان “التلفزيون مدرسة لجميع الطبقات في بلادنا”:

“تلقيت في الأسبوع الماضي دعوة من ضمن الدعوات التي يوجهها تلفزيوننا السعودي للمواطنين ليتيح لهم فرصة الاستمتاع ببرامجه الفكاهية المنوعة كمسرح التلفزيون ومع أهل الفن وغيرهما من البرامج المنوعة”.

ثم يصف رجب تجربته: “… وإذا بي أمام الممر الطويل الذي يفصل الاستوديوهات والأقسام المختلفة وإذا بي أمام مجموعة من الشباب السعوديين تعلو وجوههم ابتسامات الرضاء والفخر والاعتزاز وهم يرحبون بنا أيما ترحيب. فأدركت أن هؤلاء هم المصورون والمخرجون والمشرفون والمسجلون لهذا البرنامج مسرح التلفزيون وحان موعد تقديم المسرحية التي ألفها الزميل لطفي زيني وأخرجها رشيد أسعد” .. والأخير سيُخرج بعد ذلك أول “فيديو كليب” لطلال مداح في أغنيته الشهيرة “عيني علينا” والتي ستعرض في التلفزيون لأول مرة في يونيو 1966!

ويضيف رجب بقوله: “ولقد سررت أن القصة محلية ومخرجها سعودي ومصورها سعوديون ومسجلوها سعوديون ومن مثلوا فيها أيضا سعوديون فكانت متكاملة الإخراج والتأليف والتصوير والتسجيل والتمثيل والديكور … إن هذا الجهاز إنما هو مدرسة لجميع طبقات بلادنا ومجتمعاتها ومن أحدث الوسائل والسبل في نشر التعليم يقدم دروسا مجانية إلى منازلنا بدون أن نبذل جهودا في تلقيها”.

ويواصل رجب رصده لجديد التلفزيون، وهو الذي سيشرف على الصفحة بعد اعتزال “الزين”، هذه المرة بموضوع عنوانه: “رأي في تمثيلية أنا أخوك” في23 مايو 1966:

“كان لنا لقاء مع مسرح التلفزيون وفي تمثيلية ‘أنا أخوك’ التي ألفها مجهول وأخرجها الأستاذ الفريح والتي مثل فيها عشرة ممثلين … كمسرحية محلية سعودية تعتبر من أجمل ما قدم التلفزيون”.

والحيرة التعريفية التي وقعت فيها المادة الصحفية بين “تمثيلية” و “مسرحية” هي دلالة على حداثة المنتج المراد تقييمه والتفاعل معه. والطريف في المسرحية التي وردت أيضا باسم “أنا أخوك أمين” أن مؤلفها الذي حضر بصفة “مجهول” داخل مادة رجب الصحفية لم يكن سوى طلال مداح نفسه! كما سنعرف لاحقا من مصادر أخرى ارتبطت بمخرج العمل سعد الفريح، المخرج الذي سيحفر اسمه ضمن الرواد في الإخراج التلفزيوني والسينمائي، والقادم من تجربة تلفزيون أرامكو (1957 – ويكيبيديا) التي سبقت تأسيس التلفزيون السعودي.

كما تصنف بعض المصادر “أنا أخوك أمين” بأنها أول مسرحية للتلفزيون، بينما نقرأ في خبر رجب الأسبق “التلفزيون مدرسة لجميع الطبقات في بلادنا” عن مسرحية بدون عنوان ألفها لطفي زيني وأخرجها رشيد أسعد!

وبالعودة إلى رجب مواصلا حديثه عن “أنا أخوك” بقوله:

“إن التمثيلية في واقعها العام تعتبر مسرحية مصغرة ذات ثلاثة مشاهد كل مشهد منها فصل واحد”. ثم يسهب رجب في وصف قصة المسرحية وشرح مغزاها إلى أن يختم بقوله: ” … وأرجو أن لا يعتبر هذا نقدا بقدر ما هو رأي. أردت أن أشرحه لكي يتفادى المؤلف مثل هذه المواقف ويسعى دائما إلى أن تكون أجزاء قصته متماسكة كي لا يشوبها البرود والذي يعتبر هو القاتل لكل تمثيلية مهما كان من مثل فيها”.



الإذاعة والتلفزيون والاسطوانة الرقيعة!


صحيح أن حلم البعثة لم يتحقق لعشيرة الإذاعة، لكنه تحقق كاملا لقبيلة التلفزيون!

أما “النوتة” .. فظلت تعويذة المجد المنتظر. ما دفع بأحد الفنانين إلى القول في 16 مايو 1966 “إنه يحتفظ بمجموعة من الألحان كتبت بالنوتة في صندوق وأوصى عليها لورثته [لنشرها] بعد وفاته لجمهوره”.

هل انتصر التلفزيون على الإذاعة؟ .. على الكبرياء المتسلل دوما بين ثنايا السطور لصاحبة “اليد الطولى في تطور الفن في بلادنا”! أم أن قاموس الربح والخسارة واستعارات “الضربة القاضية” ليس لهما مكان في حديث الفن وروافعه؟!

المهم في كل الأحوال أن الابتعاث حصل، أو بتعبير الشبيلي:

“يسجل للحكومة ولوزارة الإعلام في ذلك الوقت أنها ربما تكون أول جهة حكومية في تاريخ المملكة [تفكر] في تدريب وتهيئة الكادر السعودي الفني قبل أن يبدأ المشروع. ولا أعرف أن جهة ما سبقت بهذه الناحية، إلا إذا أخذنا في الاعتبار تجربة أرامكو التي لا تعد في ذلك الوقت جهة أو شركة حكومية … وهذا الفضل يجب أن ينسب لله سبحانه وتعالى ثم للحكومة وفيها وزارة الإعلام والشيخ جميل الحجيلان.”

سنتان استغرقتهما “التجربة الرائدة” من التخطيط إلى التنفيذ، في الفترة ما بين 1963 حتى 1965 تقريبا، توّجت باختيار ما يقرب من 50 إلى 60 شاب من خريجي الثانوية العامة ضمن اتفاقية مع الحكومية الأمريكية ممثلة في هيئة مهندسي القوات الجوية قبل تعيينهم في وظائف “معفاة من النظام”، أي إنها لم تخضع لنظام المسابقات السائد. بعدها انتظم الطلبة في التدريب لمدة سنة في الولايات المتحدة الأمريكية في معهد RCA وشركة NBC ليعودوا قبل الإطلاق التجريبي للتلفزيون في محطتي جدة والرياض بواقع 30 إلى 40 موظف في كل محطة، شغلوا مساحة لا تتجاوز خمسة غرف أو أقل، وهم الذين ارتكز عليهم العمل التلفزيوني منذ يومه الأول، بحسب الشبيلي الذي يضيف بقوله:

“وفي تقديري أن العدد كان يمثل 50% من منسوبي التلفزيون في ذلك الوقت، طبعا هناك أعداد قليلة جدا من الإخوة الذين كان لهم تدريب سابق في أرامكو واستطاع التلفزيون أن يجتذبهم”.

وبالرغم من الاجتهاد والاستعداد، إلا أن البداية وفق معطيات وظروف تلك المرحلة كانت “بدائية جدا” بحسب الشبيلي الذي يضيف بقوله:

“بقدر ما كان الواقع قوي في التدريب، كانت البداية البرامجية ضعيفة إلى أبعد الحدود والسبب إنه لم يرافق الموضوع تحضير، والأمر الثاني أننا ربما نكون فوجئنا بالحجم الكبير الذي تتطلبه برمجة التلفزيون” إضافة إلى أمر آخر زاد من صعوبة البدايات يتمثل في أن التلفزيون لم يجد “من البرامج الخارجية ما يتلاءم معنا، وينبغي ألا يغيب عن الذهن أن ظهور المرأة كان غير وارد إطلاقا في تلك الفترة ولمدة تزيد عن ستة أشهر ربما … ثم بدأ النهوض رأسيا وربما كان هذا السبب الرئيسي الذي جعلنا نتجه للإنتاج المحلي.”

وفي هذا الصدد، نعثر على أول ذكر للفنانات السعوديات في عدد25 مايو 1965 من “جولة الفن”، في خبرين متتاليين:

“الفنانة توحة وقعت عقدا مع شركة الريان للاسطوانات لمدة سنتين على أن تقدم ست أغاني في خلال هذه المدة .. تمنياتنا بالتوفيق”.

ثم يليه الخبر التالي:

” ‘جاني جواب منه’ أغنية كتب كلماتها صالح جلال وأعطاها لعبده مزيد لكي يلحنها وكان ذلك منذ ست سنوات ولحنها عبده وغناها عمر الطيب في حفلات مسرح الإذاعة .. قبل أيام استمع عبده إلى نفس الكلمات بتلحين فوزي محسون وقامت بأداء الأغنية ابتسام لطفي وسجلت لحساب إحدى شركات الاسطوانات. ذعر عبده وذهب لكاتب الكلمات وكان هناك نقاشا طويلا .. سوف نستعرضه في الأسبوع القادم ونحن في انتظار ما يكتبه لنا الفرسان الثلاثة حتى نصل إلى الحقيقة ونعطي رأينا بعد ذلك.”

إلا أن حضور الفنانات العرب قد سبق هذا التاريخ بكثير خصوصا التغطيات المكثفة الدائمة لأخبار “أم كلثوم” وحفلاتها وجديدها، مع اهتمام خاص بهيام يونس التي بلغ مجموع أغانيها “السعودية” 72 أغنية بحلول ديسمبر 1964 قبل أن تحقق أغنيتها “سمراء” من كلمات يحيى توفيق حسن وألحان جميل محمود نجاحا كبيرا بمبيعات بلغت 80 ألف أسطوانة بحسب ما نشر في 21 يونيو 1965.

وبعودة إلى الإنتاج المحلي الذي كان بمثابة طوق نجاة للتلفزيون وساحة الفن، وساهم بخريطة برامجه الجديدة في تطوير وتعزيز حضور الأسماء الشهيرة، إضافة إلى اكتشاف أسماء جديدة في كل الحقول والمستويات.

كما سنحت الفرصة للتوسع في النقد والمكاشفة مثلما حدث في برنامج “ندوة التلفزيون” بإدارة رئيس مديرية الإذاعة والتلفزيون عباس غزاوي وبمشاركة الأمير الشاعر عبد الله الفيصل والشاعر محمد حسن فقي والشاعر أحمد قنديل، واكبها “الزين” يومئذ في عدد 19 يونيو 1966 تحت عنوان: “اتهام موجه لفنانيا” بما نصه:

“عندما دار النقاش حول الشعر الغنائي وعدم إسهام شعرائنا الكبار في تقديم ما لديهم، فكان جواب شاعرنا الأمير عبد الله الفيصل ما معناه ‘خسارة أن تموت قصائدي’ وهي كأبنائي. وعندما يقوم بتلحينها وغنائها أحد فنانينا [في ظل] عدم وجود الملحن الذي ينصهر في بوتقة الكلمات، والصوت الذي يحس إحساسا مرهفا لكي يؤديها بعمق حتى تظهر في صورة متكاملة من حيث الكلمات واللحن والأداء”.

ويبدو أن الساحة الفنية قد بلغت من التدافع نحو الشهرة وميوعة المعايير ما أنذر بحالة من الفوضى العارمة ستتطلب تصديا نقديا مرتفع الصوت، ما دفع “الزين” يومئذ إلى الكتابة في عدد 13 يونيو 1966:

“كيف نرتفع بمستوانا الفني … والأسواق مليئة بالاسطوانات التافهة الرقيعة من حيث الكلمة واللحن والصوت. إنها لمهزلة وأي مهزلة أن ينحدر فننا إلى هذه الدرجة من الانحطاط، كلما أردنا أن يسمو فننا إلى مستقبل أحسن نجد بعض أصحاب شركات الأسطوانات يشجعون الدخلاء على الفن لتسجيل ما لديهم من إنتاج غث رخيص يتعب أذاننا ويعكر أسماعنا ويهدم مستقبلنا الفني الذي نحاول بشتى الجهود أن ننقذه من عثرته ونجعله يقف على قدميه حتى يساير ركب الفنون في الدول المتقدمة”.

وليس واضحا إن كان المقصود بهذه السهام أحد الشركات المحلية التي بدأت تجني ثمار استثمارها المبكر في سوق الفن مثل “توزيعات الشرق” لصاحبها عبد الله حبيب صاحب الحس التجاري الذكي محليا وعربيا، أم المقصود شركة “اسطوانات رياضفون” لصاحبها لطفي زيني مندفع الطموح، أم غيرها من قائمة طويلة من التوزيعات المحلية والعربية التي تزايدت بدايات الستينيات الميلادية؛ لكن الأكيد أن الثوب الذي كانت ترتديه الساحة الفنية أخذ يضيق بدخول التلفزيون! وأن آلية الفرز البيروقراطية، الأكاديمية ربما، المتبعة في الإذاعة والتلفزيون ولجان استماعها، ستواجه بآلية “السوق” المفطور على المغامرة وذائقة الجمهور .. أي جمهور! فتزايدت المخاطرة والتجريب من كل أطراف الإنتاج وهو ما نلمسه فيما نشر، دون تشهير، يومئذ:

“أحد الهواة من الفنانين الناشئين أراد أن يظهر وأن تسلط عليه الأضواء كغيره، ذهب إلى إحدى شركات الاسطوانات فقدم إنتاجه لصاحب الشركة وقَبِل الأخير بشرط أن يكون بدون مقابل ولم يجد الفنان الناشئ طريقا غير التسجيل مجانا”!

والفنان “الناشئ” لم يكن ليفعل ذلك لولا تهافت الشركات على سوق الفن الواعد، كما شاع في خبر الأول من نوفمبر 1964:

“بعض شركات الاسطوانات في لبنان امتنعت عن تسجيل أغاني لبنان، وأخذت تسجل أغانينا السعودية لمختلف الفنانين والمطربين، الناشئين منهم والمتقدمين. أغانينا أصبح لها رواج أكبر، وفائدة .. مادية أؤكد .. فلا غرابة إذا امتنعت الشركات عن تسجيل غيرها.”

وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان للفنان الناشئ “عمر إبراهيم” بحلول يونيو 1966 ثلاث اسطوانات في السوق، في وقت لم يسجل قط للإذاعة، وسط “محاولة” بلغت مرحلة اختبار الصوت والعزف في التلفزيون.

في ظل هذا الحراك، لم يكن غريبا ظهور بعض حالات الاستغلال، المحلية غالب الظن، رصدته الصفحة الفنية:

“إحدى شركات الاسطوانات قامت بتسجيل مجموعة من الأغاني لفنانة معروفة، شارك في العزف مجموعة من الموسيقيين المعروفين .. صاحب الشركة سلم العازفين شيكا على أحد البنوك وحين ذهب الموسيقيون إلى البنك كانت المفاجأة، وجدوا أن الشيك بدون رصيد”!

كما دارت الرؤوس بألوان من الغرور لم تسلم منها أسماء كبيرة عابرة للحدود، كالذي تسلل خبره هنا:

“صدفة ومن غير ميعاد التقى أحد أدباءنا الكبار مع فنان معروف ودار بينهما الحوار.. الأديب: سمعت أنك تتهجم على الفنان والموسيقار محمد عبد الوهاب ولا تعترف بأعماله الفنية العظيمة .. ورد عليه الفنان: من قال لك هذا الكلام؟ وكل ما قيل غير صحيح”.

الأمر الذي دفع “الزين” إلى إصدار تنبيه متقدم في سماء محمد عبده في 3 يناير 1966 وذلك بعد ازدحام بريد الصفحة الفنية برسائل الإعجاب والإطراء .. “بالفنان الذي لم يمض على صعوده على مسرح الفن سوى سنتين … واستطاع أن يرضي أذواق الكثير في مدة وجيزة بالرغم من طول المسافة والمخاطر التي تعترض كل فنان يريد أن يصل ويرقى إلى درجة السمو وقمة النجاح”.

وصولا إلى مغزى الكلام: “وعليه البعد عن الشبح الذي أوقف الكثيرين منذ البداية وهو الغرور قاتله الله، وعدم التأثر بالأضواء البراقة والمديح الذي [يحيط] به”.

ونشط النصح مرة أخرى في 10 يناير 1966 في محاولة كادت تغير اتجاه الموهبة الصاعدة في خبر عنوانه: “بين الزيدان .. ومحمد عبده!” جاء فيه:

“في جلسة خاطفة بمكتب عكاظ الأساتذة [محمد] حسين زيدان وطاهر زمخشري ومحرر صفحة جولة الفن والمطرب محمد عبده. وفي أثناء الجلسة قدم الزمخشري الفنان محمد عبده ولكن الزيدان قال إنه لم يسمع هذا الفنان، وأبدى أسفه لذلك، غير إنه – كالعادة – اقترح على الزمخشري أنه يصحب محمد عبده للمدينة المنورة ليرى ويسمع عمدة الألحان ونقيب الأنغام الشيخ عبد الستار بخاري صاحب المدرسة الأصلية والأصيلة من العزف على ‘العيدان’. والذي يبدو أن المطرب محمد عبده لا يريد أن ‘يورط’ نفسه في طريق غير مضمون ولا يعلم أوله من آخره لأنه يود أن يعيش عصره … ولا يرتضي به بديلا.”

وبعودة إلى التلفزيون، فمن حسن الحظ أن “شبح الغرور” لم يصب فتية التلفزيون الجدد أمثال: عبدالله باجسير وطارق ريري وفيصل غزاوي وحسن حبحب وعبد العزيز أبو النجا بحكم مواقعهم خلف الضوء ربما! كمساعدين ومتدربين في التصوير وتسجيل الصوت والإخراج والإضاءة وإدارة الاستديو في برامج سيخرجها سعد الفريح ورشيد أسعد، في انتظار التحاقهم بالبعثات. وشعورهم يوم كتب عنهم “الزين” في 13 يونيو 1966 على لسان ريري:

“[ما تشاهدونه] هو عمل مجموعة من الشباب السعودي الذين جعلوا نفوسهم شموعا تحترق لتسعد الآخرين ولا يقلون سعادة عنهم.”


وفي محاولة لإثبات الذات واستعراض المعلومات يضيف:

“أما عن مجال تخصصي فهو التصوير التلفزيوني، وأحب أن أعطي فكرة موجزة عن الفرق بين التصوير السينمائي والتلفزيوني لأن البعض من الناس يخلطون بينهما.

التصوير السينمائي كما هو معروف للجميع يتم بواسطة كاميرا [بأحجام مختلفة ومتنوعة] في داخلها فيلم من 8 [ملم] إلى 35-16، وعند الانتهاء يحمض ثم يعرض. أما التصوير التلفزيوني … يتم بطريقة الكترونية لنقل الصورة من كاميرات كبيرة الحجم إلى جهاز يسمى بالفيديو تيب وهو يشبه إن جاز التشبيه المسجل العادي فالفرق هنا إنك بمجرد الانتهاء من التصوير تستطيع أن ترى الصورة والصوت معا.”



مرافعات اليمين ضد الأغنية الصفراء!


في العدد الأخير الذي أشرف عليه “الزين” بتاريخ 26 يونيو 1966 قبل اعتزاله الوسط والصحافة الفنية وبداية رحلة طويلة من العمل الإداري في جهات حكومية عدة حتى تقاعده، كان النقد قد بلغ طاقته القصوى.

في هذا العدد، كان لشعراء الأغنية موقفهم، إذ كتب خالد زارع السطر الأخير من مقاله النقدي العاصف “فلنتجه بالأغنية يمينا!”، أو قل مرافعته الطويلة في ثلاثة أجزاء ضد ما أسماها “الأغنية الصفراء”!

أما البداية فمع صالح جلال، الذي كتب في عاموده الرشيق الساخر “تقاسيم”:

“بعض فنانينا قفزوا إلى أضواء الشهرة ‘بالدراع’ لا بما أعطوا وأنتجوا .. وهم اليوم يعانون من مسببات عدم البقاء في عالم الشهرة”.

ويحاول جلال القبض على مكمن العلة التي آلت إليها الأغنية “التقليدية”، مضيفا:

” لأن المجال الفني لم يعد كما كان .. تقاسيم .. فمجس .. فدور من الأدوار .. يستهلك الوقت. ولم يعد مجرد – رص كلام – ولحن ميت .. وأداء أفضل الصمم على أن يفرض فيسمع … إن من أعنيهم هنا قد آن لهم الأوان أن يلملموا معروضاتهم وسيجدون بعدئذ أنهم أراحوا واستراحوا. فقبل العمل الفني [هناك] شروطا إذا لم تتوفر، في ذاتية الفنان المعطي صار عمله غثاء رغم أضواء الشهرة ورغم عملية الدراع ورغم أن بعضهم سيلقي الآن بالجريدة جانبا .. ليسأل نفسه إن كان مقصودا أو قريبا من مدار هذه التقسيمة التي من واقع الواقع”!

وبالعودة إلى مقال زارع “اليميني”، لكن في مقابل ماذا؟ “اليسار”؟! وتمثلاته الفكرية والأخلاقية الكامنة في “الأغنية الصفراء”؟ كما وصفها يومئذ.

صحيح أن مرافعة زارع لم تهبط في الفراغ، بل جاءت امتدادا طبيعيا “لسياسة” نقدية للصفحة منذ أول عدد تقريبا، إلا أن أهمية المقال تكمن في موقعه كشاعر غنائي بدأ في فرض اسمه، بمعنى أنها مناقدة من “داخل البيت”، بيت الكلمة الغنائية الذي أخذته الحمية لصيانة سقفه من الانهيار!

يبدأ زارع في الحلقة الأولى من مقاله “فلنتجه بالأغنية يمينا!” في 13 يونيو 1966 بالإشارة إلى جوهر المشكلة:

“سأقول لك وفي قلبي حسرة .. إن حال الأغنية اليوم في بلادنا لا يشرف لقد أصبحت بعض الأغاني مصدرا من مصادر الألم جرنا إلى ذلك عدد شركات الاسطوانات الأكثر مما تتصور حتى إن بعض أصحابها هم الكتاب والملحنين والمطربين والموزعين بل وهم الزبائن يفعلون هذا لا لغرض أو مطمع مادي أو لغيره وإنما يقومون به طلبا لإفساح المجال أمام هواياتهم ثم رغبة منهم للعمل الخالص المجرد من أي شر، ثم هل شرّفت في يوم سوق الخردوات لترى أن الأغاني المسجلة على الاسطوانات تباع في دواوير كتلك التي يباع فيها البرشومي والمشمش والشابوره وتباع كل ثلاثة أو أربعة فعلا بكذا ريال … ولننصت ولو لمدة دقيقة واحدة إلى كلمات بعض منها. ولا أريد أن ندخل في التفاصيل لما رأيت وسمعت ولكن أريد أن أقول إننا في غمرة الفرحة بانطلاقة الأغنية نسينا أو تناسينا أن نوفر عناصر هامة لها كسمو الكلمة وآدابها وما يجب أن تكون عليه، فاتجهنا إلى الغزل الرخيص إلى الوصف الغير لائق ذوقيا وأخلاقيا واجتماعيا”.

ثم يختم هذا الجزء شارحا فلسفته “اليمينية” بقوله:

“أريد أن أقول إن هذا الاتجاه الملتوي المحض بالأغنية سيؤدي إلى هاوية سحيقة نجني منها ضياع أخلاق جيلنا الحاضر يمتد إلى المستقبل حتى إذا جاؤوا يبحثون عن السبب يتذكرون الماضي ونكون نحن السبب. ولكن الفرصة أمامنا لنكتب .. لنلحن .. لنغني في اتجاه يميني ننشد فيه الخير والسلام ونبتعد عن الشر وما يؤدي إليه. وإنني أدعو جميع الإخوان زملائي كتاب الأغنية وملحنيها ومغنيها .. وأطالب الجميع بأن يدركوا المسؤولية الملقاة على عاتقهم حتى أصحاب الشركات والموزعين يتحتم عليهم أن يشاركوا في أداء هذا الواجب الوطني وأرجوا أن تجد هذه الدعوة الترحيب والقبول وإلا فعلينا وعلى أغانينا ومغنيها وملحنيها وكتابها السلام.”

بيد أن الإشكالية التي طغت على معظم النقد، دقيقه وجله، المنثور في صفحات الملاحق الفنية موضع النظر، هي وقوعه دوما في أفخاخ العمومية وغياب المعيارية، وهو أمر يمكن تفهمه في غمرة الطموح وحداثة التجربة النقدية والفنية بعموم. وربما الأهم، انغماس الناقد والمنقود في المرحلة الفنية نفسها، وبالتالي انتفاء المسافات الموضوعية، الأمر الذي لابد وأن يترك شيئا ولو ضئيلا من عوالق النفس البشرية وحظوظها تجاه بعضهم البعض! وعلى أي حال، يحسب لذلك الجيل أنه لم يهرب من “واجب” النقد!

ومثال ذلك، بصرف النظر مؤقتا، عن “موضوعية” ما نشر ذات نهار في ملحق “دنيا الفن” في عدد “البلاد” الموافق 1 ديسمبر 1963 بعنوان “بكل صراحة!!” الذي يفيد:

“ليت الفنان عمر كدرس يترك الغناء. ولم نكن نريد التشهير أو النيل من سمعته كفنان قدير فهو بلا شك من أقوى عازفينا على العود والكمان ومن أقدر الملحنين في بلادنا … ويعرف الكثير من المستمعين أن الإذاعة تذيع أصواتا لا تصلح للغناء مطلقا ولا داعي لذكر أسماء هؤلاء … أتمنى على الإذاعة أن ترحم أعصاب الجمهور وتكون لجنة لاختيار الأصوات الصالحة. وأريد أن أعرف لماذا ترك الملحن الكبير رياض السنباطي الغناء واكتفى بالتلحين؟ ولماذا ترك الملحن الكبير محمد الموجي الغناء مع أنه كان أول من غنى أغنية وأنا قلبي إليك ميال. ولماذا ترك الملحن بليغ حمدي الغناء مع انه في بدء حياته الفنية كان مطربا؟ أسئلة انتظر الإجابة عليها من الذين اتهموني بالتهجم على الفنان عمر وانتظر إجابة عمر نفسه.”

ولكن لحظة زارع هنا لا تشبه لحظة الكدرس هناك! وشتان ما بين الثرى والثريا! فالمشهد الآن بحاجة إلى “حرب على ما وصل إليه مستوى الإنتاج الفني الغنائي في بلادنا” بحسب الجزء الثاني من مقال زارع في 19 يونيو 1966 والذي يرسم فيه صورة “للفنان” المعني بالهجاء والنقد بأسلوب أدبي ساخر:

” وقال آخر رأيته صدفة في السوق يلبس ثوبا باليا بصدر دالع، هل لديك متسع من الوقت لأسمعك أغنية جديدة؟ قلت من أنت. قال أنا مطرب جديد عندي ألحان وأغاني من تأليفي سأسافر إلى الخارج لأسجلها بصوتي .. هل بإمكانك أن تتوسط لي عند .. ‘فلان’ صاحب الشركة ‘الفلانية’ ليشتريها مني .. عندي ستة أغاني والسابعة سألحنها الليلة .. أو ثمانية سأكتبها غدا وألحنها بعد الظهر .. أنا لا أهتم للمادة بقدر اهتمامي أن أخدم الفن .. ويجب أن أضحي .. ولا بد من السهر طالما أنني في أول الطريق .. فقلت له إنك متواضع يا أستاذ .. لأنك في آخر الطريق لقد بدأتها من الست أغاني .. آسف .. الثماني أغاني بإنتاج غد .. أنت موهبة القرن .. يا سلام .. أنت الآن موسيقار .. شاعرار .. ملحنار .. لا يبقى في الأرض دار .. إلا وتذهبه الجدار .. بصوتك .. بلحنك بأحاسيسك الشابة .. بنوادرك الغريبة .. أنت كحكاية أبو زيد الهلالي .. سيقول التاريخ الفني إنك ‘كنت وهما فخيالا فخرابا فهوى’ قال أشكرك على تقديرك .. الواقع إنك أنت أول من شجعني فقلت: صدقني وآخر من يشجعك .. قال: إذن خذ معك الأغاني لمراجعتها .. قلت لا أرجوك إنني مشغول جدا .. لدي مريض. قال من هو؟ قلت: قلبي .. قال: أنت مثلي أنا فالحب لم يترك في قلبي خانة إلا ومزقها .. اسمع ماذا كتبت مرة .. قلبي حجر زي البلك وبالحب اتفتت وصار أوصال. ‘نحمد الله الذي لم يجعلها كباب’ مين يا حبيب القلب عني غيرك. ولا تقول يا ناس كيف الحال. يا قلبي .. آه .. آه يا قلبي حرام عليهم يا قلبي يعذبوك ويبهدلوك قلبي أنا زي القروش مصكوك بين الصخور زي الجنيه والبوك .. قلت لحظة من فضلك. قال والثانية تقول. حبيبي في البلكونة وأهل الحارة حاربونا .. قلت يا أخي أنا أصنج .. لا أسمع .. لا تترك لمواهب تضيع هكذا سدى .. اذهب إلى أي شركة .. اذهب واتصل هاتفيا بالنجدة لتأخذني إلى أقرب مستشفى أو إلى مكان أمين لا يوجد فيه أمثالك .. قال شكرا ..”

إلى أن يصل إلى مضمون الجزء الثاني من المقال بقوله:

“إننا وإن نهدف إلى تطوير الأغنية ونطالب بالتجديد فيها .. إلا أننا نريد أن تكون سامية سامقة .. يقول كل من استمع إليها .. رائعة .. جميلة .. فيها تضافر جهود فنية وأحاسيس صادقة .. لا يقولون تجارة اسطوانات”.

وهنا وقفة ثانية، تستوضح معايير “التذوق” الجمالي للكلمة الغنائية المراد تطويرها، نجدها هذه المرة في قصيدة لطاهر زمخشري بعنون “القلب بنشر”، نشرت في 18 يناير 1965وكتب تحتها يومئذ:

“الشاعر الذي كتب أروع الأغاني، وعزف قيثارة الحب بشعره العاطفي .. كان ولا يزال الشاعر الذي يجتذب النفوس بحلاوة شعره وطراوة أسلوبه. الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري غني عن التعريف، فقد امتاز شعره الغنائي بالرقة، والعذوبة وفي هذه الأغنية التي كتب كلماتها الأستاذ طاهر وغنتها جاكلين تعبير رائع عن القلب المبنشر.”

يقول زمخشري في مطلع القصيدة:

القلب بنشر لكنه فرمل/لأنه خايف من المطب

شايف حبيبه على الرمال/من قبل أبحر وفي الشمال

وهو لابس ثوب الدلال/وفي عيونه رمشين نبال

القلب بنشر/ لكنه فرمل

ولا أخال زارع يقصد الزمخشري من قريب أو بعيد! ولا أظنه ينتقد الأسلوب الشعري والكلمة “السهلة” التي راجت ضمن محاولات إخراج الأغنية السعودية من كلاسيكيتها، المهمة التي تتطلب “التجريب”، شأنها شأن كل الفنون في مراحل تجديدها، والتي كان زارع أحد فرسانها.

هل كانت “الأغنية الصفراء” من القباحة بحيث يصعب الاستشهاد بها في الصحف؟!

ويجيب زارع في الجزء الأخير من المقال بقوله:

“والمسألة لا تحتاج إلى دليل ففي الأسواق ما يغني ويبرهن صدق قولنا .. مجموعة من اسطوانات القباحة والأخلاق الشوارعية يخجل الاستماع عليها أي منا فكيف إذا يتجرأ المنتجون فيطبعون ويوردون ويبيعون ويوزعون .. بل ألا يخجل المطرب على عمله والكاتب على سمعته والملحن على فنه ولكن من هم الفنانين .. إنهم قلة تعد على أصابع اليد الواحدة .. أقصد الملحنين والمطربين والكتاب .. ثم الإنتاج الذي نتصدى له لا يصدر من أمثال هؤلاء الذين ذكرنا .. بل … من أناس أدخلوا إلى أسمائهم كلمة فنان أو ما شاء الله تبارك الله موسيقار .. إنهم المطربون من الدرجة الأخيرة الذين يتقاضون أجرا قدره مائة أو مائة ونصف على الأغنية .. أداء .. ولحنا … وقد يصل بهم الحال إلى أن يدفع المطرب نقودا على أغانيه كي يظهر وينال من الشهرة مثل غيره من الفنانين.”

وينهي زارع مرافعته بقوله:

“بقي الأخذ والرد فيما ذكرنا وفيما سيذكر بعض الإخوة والزملاء وهل قصدنا غير الخير في دعوتنا التي لا أعتقد أنها تجد امتعاضا بل تجد الترحيب. وأرجو أن يكون الأمر على مائدة البحث”.



وقام الزين وسار معهم.

وصلوا الدار الكبيرة، حيث أغلب الناس، فاستقبلتهم الضجة، وغشيت عيونهم أول وهلة من النور الساطع المنبعث من عشرات المصابيح. كانت فطومة تغني، والدلاليك تزمجر، وفي الوسط فتاة ترقص، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم. انفلت الزين، وقفز قفزة عالية في الهواء فاستقر في وسط الدائرة. ولمع ضوء المصابيح على وجهه، فكان ما يزال مبللا بالدموع. صاح بأعلى صوته، ويده مشهورة فوق رأس الراقصة: ‘ابشروا بالخير .. ابشروا بالخير’. وفار المكان، فكأنه قدر تغلي، لقد نفث فيه الزين طاقة جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق، تتسع وتتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب.

ذلك ما كتبه الطيب صالح في ختام روايته “عُرس الزين” .. أما “زين” مكة، فقال عن اعتزاله المبكر، بعد أن غرق صامتا في ذاكرته:

“عندما سلكت طريق الفن، زعلوا الناس من حولي .. وزعلوا مني عندما تركته!”





48 views0 comments

Comentarios


bottom of page